الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو، وتتضح سماتها. وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها الخاصة، وقيمها الخاصة. وطابعها المميز بين سائر الجماعات. وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف؛ وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تعود خليطاً مجهول القيم. وكان القرآن الكريم يتنزل في إبان الابتلاء أو بعد انقضائه، يصور الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه، فتنكشف المواقف والمشاعر، والنوايا والضمائر. ثم يخاطب القلوب وهي مكشوفة في النور، عارية من كل رداء وستار؛ ويلمس فيها مواضع التأثر والاستجابة؛ ويربيها يوماً بعد يوم، وحادثاً بعد حادث؛ ويرتب تأثراتها واستجاباتها وفق منهجه الذي يريد. ولم يترك المسلمون لهذا القرآن، يتنزل بالأوامر والنواهي، وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة؛ إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات، والفتن والامتحانات؛ فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية، التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب؛ وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. أما القرآن فيتنزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته؛ وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة! ولقد كانت فترة عجيبة حقاً تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فترة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مبلوراً في أحداث وكلمات. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه، وأن سمع الله إليه؛ وأن كل كلمة منه وكل حركة، بل كل خاطر وكل نية، قد يصبح مكشوفاً للناس، يتنزل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحين كان كل مسلم يحس الصلة المباشرة بينه وبين ربه؛ فإذا حزبه أمر، أو واجهته معضلة، انتظر أن تفتح أبواب السماء غداً أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته، وفتوى في أمره، وقضاء في شأنه. وحين كان الله سبحانه بذاته العلية، يقول: أنت يا فلان بذاتك قلت كذا، وعملت كذا وأضمرت كذا وأعلنت كذا. وكن كذا، ولا تكن كذا.. وياله من أمر هائل عجيب! ياله من أمر هائل عجيب أن يوجه الله خطابه المعين إلى شخص معين.. هو وكل من على هذه الأرض، وكل ما في هذه الأرض، وكل هذه الأرض. ذرة صغيرة في ملك الله الكبير! لقد كانت فترة عجيبة حقاً، يتملاها الإنسان اليوم، ويتصور حوادثها ومواقفها، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع، الأضخم من كل خيال! ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيهم، وتنضج شخصيتهم المسلمة. بل أخذهم بالتجارب الواقعية، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي؛ وكل ذلك لحكمة يعلمها، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلاً، ندركها ونتدبرها؛ ونتلقى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير. وهذا المقطع من سورة الأحزاب يتولى تشريح حدث من الأحداث الضخمة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وفي تاريخ الجماعة المسلمة؛ ويصف موقفاً من مواقف الامتحان العسيرة، وهو غزوة الأحزاب، في السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة، الامتحان لهذه الجماعة الناشئة، ولكل قيمها وتصوراتها. ومن تدبر هذا النص القرآني، وطريقة عرضه للحادث، وأسلوبه في الوصف والتعقيب ووقوفه أمام بعض المشاهد والحوادث، والحركات والخوالج، وإبرازه للقيم والسنن. من ذلك كله ندرك كيف كان الله يربي هذه الأمة بالأحداث والقرآن في آن. ولكي ندرك طريقة القرآن الخاصة في العرض والتوجيه فإننا قبل البدء في شرح النص القرآني، نثبت رواية الحادث كما عرضتها كتب السيرة مع الاختصار المناسب ليظهر الفارق بين سرد الله سبحانه؛ وسرد البشر للوقائع والأحداث. عن محمد بن إسحاق قال: بإسناده عن جماعة: إنه كان من حديث الخندق أن نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} إلى قوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً} فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشاً قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه. فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة، والحارث بن عوف من بني مرة، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا لهم من الأمر ضرب الخندق على المدينة؛ فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل معه المسلمون فيه. فدأب فيه ودأبوا. وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن. وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له. فأنزل الله في أولئك المؤمنين.. {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه. إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم} ثم قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً. قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم} ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نَقْمَى إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلع في ثلاثة آلاف من المسلمين؛ فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام (أي الحصون). وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم. وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه؛ وعاقده على ذلك وعاهده.. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب (أي ما زال يروضه ويخاتله) حتى سمح له على أن أعطاه عهداً وميثاقاً: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمداً أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب ابن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف؛ وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط! وحتى قال أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو وذلك عن ملأ من رجال قومه فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج من المدينة. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام عليه المشركون بضعاً وعشرين ليلة، قريباً من شهر. لم تكن بينه وبينهم حرب إلا الرميا بالنبل والحصار. «فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتابة؛ ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل؛ بعث إلى سعد بن معاذ (سيد الأوس) وسعد بن عبادة (سيد الخزرج) فذكر ذلك لهما. واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه؟ أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال:» بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما «. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعاً. أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» فأنت وذاك «. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا». وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة، لتظاهر عدوهم عليهم، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم. ثم «إن نعيم بن مسعود بن عامر (من غطفان) أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة». (وقد فعل حتى أفقد الأحزاب الثقة بينهم وبين بني قريظة «في تفصيل مطول تحدثت عنه روايات السيرة ونختصره نحن خوف الإطالة)... وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد. فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم (يعني خيامهم وما يتخذونه للطبخ من مواقد... الخ). فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم، وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعله القوم ليلاً. قال ابن إسحاق: فحدثني زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله. أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال:» فقال حذيفة: يا ابن أخي. والله لقد رأيتنا مع سول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله هوياً من الليل؛ ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع، يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد. فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. فقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدث شيئاً حتى تأتينا «قال: فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، ولا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال: فلان ابن فلان! ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكراع والخف (يعني الخيل والجمال) وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون. ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء.. فارتحلوا فإني مرتحل. . ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث. فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ ألا تحدث شيئاً حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط (أي كساء) لبعض نسائه مرجل (من وشي اليمن) فلما رآني أدخلني إلى رجليه، وطرح عليَّ طرف المرط؛ ثم ركع وسجد وإني لفيه. فلما سلم أخبرته الخبر.. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم. إن النص القرآني يغفل أسماء الأشخاص، وأعيان الذوات، ليصور نماذج البشر وأنماط الطباع. ويغفل تفصيلات الحوادث وجزئيات الوقائع، ليصور القيم الثابتة والسنن الباقية. هذه التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات، ومن ثم تبقى قاعدة ومثلاً لكل جيل ولكل قبيل. ويحفل بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره اللطيف، ويقف عند كل مرحلة في المعركة للتوجيه والتعقيب والربط بالأصل الكبير. ومع أنه كان يقص القصة على الذين عاشوها، وشهدوا أحداثها، فإنه كان يزيدهم بها خبراً، ويكشف لهم من جوانبها ما لم يدركوه وهم أصحابها وأبطالها! ويلقي الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبآت الضمائر؛ ويكشف للنور الأسرار والنوايا والخوالج المستكنة في أعماق الصدور. ذلك إلى جمال التصوير، وقوته، وحرارته، مع التهكم القاصم، والتصوير الساخر للجبن والخوف والنفاق والتواء الطباع! ومع الجلال الرائع والتصوير الموحي للإيمان والشجاعة والصبر والثقة في نفوس المؤمنين. إن النص القرآني معد للعمل لا في وسط أولئك الذين عاصروا الحادث وشاهدوه فحسب. ولكن كذلك للعمل في كل وسط بعد ذلك وفي كل تاريخ. معد للعمل في النفس البشرية إطلاقاً كلما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوعة. بنفس القوة التي عمل بها في الجماعة الأولى. ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل الظروف التي واجهتها أول مرة. هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة. وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات. وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها. تنتفض خلائق حية، موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية، في عالم الواقع وعالم الضمير. إن القرآن ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة.. وكفى.. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة؛ وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب! وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات؛ ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط، ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق. وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث. يبدأ السياق القرآني الحديث عن حادث الأحزاب بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم أن رد عنهم الجيش الذي همّ أن يستأصلهم، لولا عون الله وتدبيره اللطيف. ومن ثم يجمل في الآية الأولى طبيعة ذلك الحادث، وبدءه ونهايته، قبل تفصيله وعرض مواقفه. لتبرز نعمة الله التي يذكرهم بها، ويطلب إليهم أن يتذكروها؛ وليظهر أن الله الذي يأمر المؤمنين باتباع وحيه، والتوكل عليه وحده، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه، من عدوان الكافرين والمنافقين: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيراً}.. وهكذا يرسم في هذه البداءة المجملة بدء المعركة وختامها، والعناصر الحاسمة فيها.. مجيء جنود الأعداء. وإرسال ريح الله وجنوده التي لم يرها المؤمنون. ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم، وبصره بعملهم. ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم؛ وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا. ويستأذن فريق منهم النبي، يقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة. إن يريدون إلا فراراً}.. إنها صورة الهول الذي روع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب. من أعلاها ومن أسفلها. فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج. ومن ثم كان الابتلاء كاملاً والامتحان دقيقاً. والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسماً لا تردد فيه. وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته، وكل انفعالاته، وكل خلجاته، وكل حركاته، ماثلاً أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير. ننظر فنرى الموقف من خارجه: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}.. ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس: {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر}.. وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب. {وتظنون بالله الظنونا}.. ولا يفصل هذه الظنون. ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج، وذهابها كل مذهب، واختلاف التصورات في شتى القلوب. ثم تزيد سمات الموقف بروزاً، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحاً: {هنالك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً}.. والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولاً مروعاً رعيباً. قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهاراً؛ وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان ابن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد يوماً، ويغدو عمرو بن العاص يوماً، ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً. ويغدو ضرار بن الخطاب يوماً. حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفاً شديداً. ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع. قال: ثم وافى المشركون سحراً، وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هويّ من الليل، وما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم. وما قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء؛ فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله ما صلينا! فيقول. ولا أنا والله ما صليت! حتى كشف الله المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله، وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة وعليها خالد بن الوليد فناوشهم ساعة، فزرق وحشي الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق، فقتله كما قتل حمزة رضي الله عنه بأحد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقلوبهم ناراً. وخرجت طليعتان للمسلمين ليلاً فالتقتا ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدو. فكانت بينهم جراحة وقتل. ثم نادوا بشعار الإسلام!» حم. لا ينصرون «فكف بعضهم عن بعض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد». ولقد كان أشد الكرب على المسلمين، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم. فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق، وأن تميل عليهم يهود، وهم قلة بين هذه الجموع، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة. ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}.. فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد؛ وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون. فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك. وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم؛ فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل، وروع نفوسهم ترويعاً لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين! ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة؛ وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء. فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان! {وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا}.. فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا، لا موضع لها ولا محل، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم.. وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها، ثغرة الخوف على النساء والذراري. والخطر محدق والهول جامح، والظنون لا تثبت ولا تستقر! {ويستأذن فريق منهم النبي، يقولون: إن بيوتنا عورة}.. يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو. متروكة بلا حماية. وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة، ويجردهم من العذر والحجة: {وما هي بعورة}.. ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار: {إن يريدون إلا فراراً}.. وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: {إن بيوتنا عورة}، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا، فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم صلى الله عليه وسلم فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال: يا رسول الله لا تأذن لهم. إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا.. فردهم.. فهكذا كان أولئك الذين يجبههم القرآن بأنهم: {إن يريدون إلا فراراً}.. ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية لموقف البلبلة والفزع والمراوغة. يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض. صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة، وخور القلب، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء، ولا متجملين لشيء: {ولو دخلت عليهم من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة لآتوها، وما تلبثوا بها إلا يسيراً}.. ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة؛ ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. {ثم سئلوا الفتنة} وطلبت إليهم الردة عن دينهم {لآتوها} سراعاً غير متلبثين، ولا مترددين {إلا قليلاً} من الوقت، أو إلا قليلاً منهم يتلبثون شيئاً ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفاراً! فهي عقيدة واهنة لا تثبت؛ وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة! هكذا يكشفهم القرآن؛ ويقف نفوسهم عارية من كل ستار.. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد. ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا؛ ثم لم يرعوا مع الله عهداً: {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. وكان عهد الله مسؤولاً}. قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة: هم بنو حارثة، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها. ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبداً. فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم. فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته، وثبتهم، وعصمهم من عواقب الفشل. وكان ذلك درساً من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد. فأما اليوم، وبعد الزمن الطويل، والتجربة الكافية، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة. وعند هذا المقطع وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها؛ ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار: {قل: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل؛ وإذن لا تمتعون إلا قليلاً. قل: من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة؛ ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً}.. إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. لن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب. وكل موعد في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل. ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءاً أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون الله، يحميهم ويمنعهم من قدر الله. فالاستسلام الاستسلامَ. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع الله، في السراء والضراء. ورجع الأمر إليه، والتوكل الكامل عليه. ثم يفعل الله ما يشاء. ثم يستطرد إلى تقرير علم الله بالمعوقين، الذين يقعدون عن الجهاد ويدعون غيرهم إلى القعود. ويقولون لهم: {لا مقام لكم فارجعوا}.. ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة. وهي على صدقها تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس. صورة للجبن والانزواء، والفزع والهلع. في ساعة الشدة. والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء. والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه. والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد.. والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز: {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلاً. أشحة عليكم. فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت. فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد. أشحة على الخير. أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً. يحسبون الأحزاب لم يذهبوا. وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم. ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً}.. ويبدأ هذا النص بتقرير علم الله المؤكد بالمعوقين الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة. الذين يدعون إخوانهم إلى القعود {ولا يأتون البأس إلا قليلاً} ولا يشهدون الجهاد إلا لماماً. فهم مكشوفون لعلم الله، ومكرهم مكشوف. ثم تأخذ الريشة المعجزة في رسم سمات هذا النموذج. {أشحة عليكم} ففي نفوسهم كزازة على المسلمين. كزازة بالجهد وكزازة بالمال، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء. {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت}.. وهي صورة شاخصة، واضحة الملامح، متحركة الجوارح، وهي في الوقت ذاته مضحكة، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان، الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار! وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن: {فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد}.. فخرجوا من الجحور، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، ونفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حياء، ما شاء لهم الادعاء، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال، والشجاعة والاستبسال.. ثم هم: {أشحة على الخير}.. فلا يبذلون للخير شيئاً من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم؛ مع كل ذلك الادعاء العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان! وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل. فهو موجود دائماً. وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء. وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف. وهو شحيح بخيل على الخير وأهل الخير، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان! {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم}.. فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، ولم تهتد بنوره، ولم تسلك منهجه. {فأحبط الله أعمالهم}.. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك. {وكان ذلك على الله يسيراً}.. وليس هنالك عسير على الله، وكان أمر الله مفعولاً.. فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا}.. فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويخذّلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت، وأنه قد ذهب الخوف، وجاء الأمان! {وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم}.. يا للسخرية! ويا للتصوير الزري! ويا للصورة المضحكة! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوماً من الأيام. ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير. ولا يعلمون حتى ما يجري عند أهلها. إنما هم يجهلونه، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب! مبالغة في البعد والانفصال، والنجاة من الأهوال! يتمنون هذه الأمنيات المضحكة، مع أنهم قاعدون، بعيدون عن المعركة، لا يتعرضون لها مباشرة؛ إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً}.. وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة. صورة ذلك النموذج الذي كان عائشاً في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح، وذات السمات.. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج، والسخرية منه، والابتعاد عنه، وهوانه على الله وعلى الناس. ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف، وتلك كانت صورتهم الرديئة. ولكن الهول والكرب والشدة، والضيق لم تحول الناس جميعاً إلى هذه الصورة الرديئة.. كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام، مطمئنة في وسط الزلزال، واثقة بالله، راضية بقضاء الله، مستيقنة من نصر الله، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب. ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله صلى الله عليه وسلم. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً}.. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد، مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه صلى الله عليه وسلم في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة؛ ويذكر الله ولا ينساه. ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال. إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الخندق مع المسلمين. يضرب بالفأس، ويجرف التراب بالمسحاة، ويحمل التراب في المكتل. ويرفع صوته مع المرتجزين، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية: «كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وسماه عمراً. فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج: _@_سماه من بعد جعيل عمراً _@_ وكان للبائس يوماً ظهراً_@_ فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة» عمرو «، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» عمراً «. وإذا مروا بكلمة» ظهر «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظهراً» ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون، والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، ويرجع معهم هذا الغناء. ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز. «وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب. فقال صلى الله عليه وسلم» أما إنه نعم الغلام! «وغلبته عيناه فنام في الخندق. وكان القر شديداً. فأخذ عمارة بن حزم سلاحه، وهو لا يشعر. فلما قام فزع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك «! ثم قال:» من له علم بسلاح هذا الغلام «؟ فقال عمارة: يا رسول الله هو عندي. فقال:» فرده عليه «. ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعباً!» وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب، لكل من في الصف، صغيراً أو كبيراً. كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة: «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك!» ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم، في أحرج الظروف.. ثم كانت روحه صلى الله عليه وسلم تستشرف النصر من بعيد، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول؛ فيحدث بها المسلمين، ويبث فيهم الثقة واليقين. قال ابن إسحاق: «وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليّ صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني. فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليّ، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال:» أوَ قد رأيت ذلك يا سلمان «؟ قال: قلت. نعم: قال: أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق». وجاء في «إمتاع الأسماع للمقريزي» أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان. رضي الله عنهما. ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب، والخطر محدق بها محيط. ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائداً من استطلاع خبر الأحزاب؛ وقد أخذه القر الشديد؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه. فإذا هو في صلاته واتصاله بربه، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه صلوات الله وسلامه عليه بين رجليه، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو. ويمضي في صلاته. حتى ينتهي، فينبئه حذيفة النبأ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه صلى الله عليه وسلم فبعث حذيفة يبصر أخبارها! أما أخبار شجاعته صلى الله عليه وسلم في الهول، وثباته ويقينه، فهي بارزة في القصة كلها، ولا حاجة بنا إلى نقلها، فهي مستفيضة معروفة. وصدق الله العظيم: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً}.. ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة، في مواجهة الهول، وفي لقاء الخطر. الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله. وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.. لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالاً شديداً، كما قال عنهم أصدق القائلين: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً}.. لقد كانوا ناساً من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية؛ وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق.. على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم. ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة. «والرسول صلى الله عليه وسلم يحس حالة أصحابه، ويرى نفوسهم من داخلها، فيقول: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع. يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة». ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة، فإن أحداً لا يلبي النداء. فإذا عين بالاسم حذيفة قال: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني!.. ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة.. ولكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر. ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب} وها هم أولاء يزلزلون. فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله}.. {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.. {هذا ما وعدنا الله ورسوله}.. هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق. وعدنا عليه النصر.. فلا بد أن يجيء النصر: {وصدق الله ورسوله}.. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها.. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: {وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}.. لقد كانوا ناساً من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر. وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته. فلهذا خلقهم الله. خلقهم ليبقوا بشراً، ولا يتحولوا جنساً آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجراً.. كانوا ناساً من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة. ولكنهم كانوا مع هذا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله؛ وتمنعهم من السقوط؛ وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. وكانوا بهذا وذاك نموذجاً فريداً في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير. وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور. علينا أن ندرك أنهم كانوا بشراً، لم يتخلوا عن طبيعة البشر، بما فيها من قوة وضعف. وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء. وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق.. فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبداً! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر. فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق.. وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وما بدلوا تبديلاً}.. هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه. نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. ثم ولم يوفوا بعهد الله: {وكان عهد الله مسؤولاً}.. روى الإمام أحمد بإسناده عن ثابت قال: «عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه! لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له أنس رضي الله عنه يا أبا عمرو. أين واهاً لريح الجنة! إني أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته عمتي الرُّبيِّع ابنة النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. قال: فنزلت هذه الآية: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. الخ} قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم. (ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة). وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان، في مقابل صورة النفاق والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق. لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن. ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء، وعاقبة النقض والوفاء؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم. إن الله كان غفوراً رحيماً}.. ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد ليرد الأمر كله إلى الله، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع. فليس شيء منها عبثاً ولا مصادفة. إنما تقع وفق حكمة مقدرة، وتدبير قاصد. وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب. وفيها تتجلى رحمة الله بعباده. ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: {إن الله كان غفوراً رحيماً}.. ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً}.. وقد بدأت المعركة، وسارت في طريقها، وانتهت إلى نهايتها، وزمامها في يد الله، يصرفها كيف يشاء. وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره. فأسند إلى الله تعالى إسناداً مباشراً كل ما تم من الأحداث والعواقب، تقريراً لهذه الحقيقة، وتثبيتاً لها في القلوب؛ وإيضاحاً للتصور الإسلامي الصحيح. ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم. بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم، وقذف في قلوبهم الرعب، فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأرضاً لم تطؤوها. وكان الله على كل شيء قديراً}.. فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين.. إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطاً عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدواً، ولا يمدوا يداً بأذى. ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول. وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة. كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة. فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه! وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبدالله بن سلام. ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه. ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود. فطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه! فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فخرج عندئذ عبدالله بن سلام إليهم، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به. فوقعوا فيه، وقالوا قالة السوء، وحذروا منه أحياء اليهود. وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي. فاعتزموا الكيد لمحمد صلى الله عليه وسلم كيداً لا هوادة فيه. ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود! لقد بدأت في أول الأمر حرباً باردة، بتعبير أيامنا هذه. بدأت حرب دعاية ضد محمد عليه الصلاة والسلام وضد الإسلام. واتخدوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله. اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة. واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض. بين الأوس والخزرج مرة، وبين الأنصار والمهاجرين مرة. واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين. واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين.. وأخيراً أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين، كالذي حدث في غزوة الأحزاب.. وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. وكان لكل منها شأن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين. فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر؛ وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته، بعدما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم. وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن إسحاق ما كان من أمرهم قال: وكان «من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس. وذكر ابن هشام عن طريق عبدالله بن جعفر قال: كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت يهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال: «فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام عبدالله بن أبيَّ بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ وكانوا حلفاء الخزرج قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أحسن في مواليّ. قال: فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني. وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً. ثم قال:» ويحك! أرسلني. «قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ. أربع مائة حاسر. وثلاث مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود. تحصدهم في غداة واحدة. إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم لك». وكان عبدالله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح. وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة. وأما بنو النضير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم. فلما أتاهم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة، فألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة. وأمر بالتهيؤ لحربهم. فتحصنوا منه في الحصون. وأرسل إليهم عبدالله ابن أبي ابن سلول (رأس النفاق) أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم. إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم. وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال. وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. ففعل. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم ممن سار إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب.. هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب. والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة. وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلباً على المسلمين مع المشركين، بتحريض من زعماء بني النضير، وحيي بن أخطب على رأسهم. وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة. ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إليه الخبر، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبدالله بن رواحة، وخوات بن جبير رضي الله عنهم فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس». (مما يصور ما كان يتوقعه صلى الله عيله وسلم من وقع الخبر في النفوس). «فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد!.. ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتلميح لا بالتصريح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر. أبشروا يا معشر المسلمين» . (تثبيتاً للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف). ويقول ابن إسحاق: وعظم عند ذلك البلاء؛ واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم. حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين.. الخ. فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب. فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره. ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيراً؛ وكفى الله المؤمنين القتال.. رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصوراً، ووضع الناس السلاح، «فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء المرابطة، في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال:» أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم». قال: «ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم». ثم قال: «إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة» وكانت على أميال من المدينة. وذلك بعد صلاة الظهر. وقال صلى الله عليه وسلم: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة «فسار الناس في الطريق، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير. وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة. فلم يعنف واحداً من الفريقين. وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم (صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى..) رضي الله عنه وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة. فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبدالله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك. ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله (وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع) أيام الخندق؛ فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب؛ وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقنا لها؛ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها؛ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه. وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم، طلباً من تلقاء أنفسهم. فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم. فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه جعل الأوس يلوذون به، يقولون: يا سعد إنهم مواليك، فأحسن عليهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه. وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم! فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال رسول الله:» قوموا إلى سيدكم «فقام إليه المسلمون فأنزلوه؛ إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم. فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن هؤلاء وأشار إليهم قد نزلوا على حكمك. فاحكم فيهم بما شئت «فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم؟ قال: صلى الله عليه وسلم:» نعم «. قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال:» نعم «. قال: وعلى من ها هنا (وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وإكراماً وإعظاماً). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» نعم «. فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة» (أي سماوات). ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم. وكانوا ما بين السبع مائة، والثماني مائة. وسبي من لم ينبت (كناية عن البلوغ) مع النساء والأموال. وفيهم حيي بن أخطب. وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم. ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود، وضعفت حركة النفاق في المدينة؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون. وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم.
|